كتبت المقالة الكاتبة بنيت روسو، المتخصصة في علم النفس الوجودي، التي ترى أن الصدمات الكبرى — مثل فقدان الوظيفة أو الانفصال أو مواجهة مرض خطير — تهزّ الشعور الإنساني بالثبات والأمان، وتفتح بابًا للتساؤل عن المعنى الحقيقي للحياة. تؤكد روسو-نيتزر أن هذا الاضطراب الوجودي لا يدل على ضعف، بل على إنسانية حقيقية، وأن مواجهة القلق الوجودي بصدق قد تكون الخطوة الأولى نحو حياة أكثر أصالة وامتلاءً بالمعنى.
توضح المجلة الأمريكية سيكولوجي توداي أن الثقافة الحديثة لا تمنح الإنسان مساحة كافية للحزن أو الارتباك، بل تدفعه إلى التماسك المصطنع والعودة السريعة إلى “الإيجابية”. غير أن هذا السعي
الألم يجعل التجربة الإنسانية ناقصة. فبدل الهروب من مشاعر القلق، تدعو روسو-نيتزر إلى توجيهها لتصبح “بوابة للوجود الأصيل”، أي حالة من الوعي بكون الحياة قصيرة، وهشّة، وغير مؤكدة، ورغم ذلك يعيش الإنسان فيها بصدق مع ذاته واختياراته.
تشير الباحثة إلى أن الفلاسفة الوجوديين انشغلوا طويلاً بفكرة الأصالة، أي أن يعيش الفرد مدركًا لمحدودية حياته بدل أن ينساق في نسيان الوجود داخل روتين يومي خالٍ من الوعي. فهايدجر فرّق بين “نسيان الوجود”، حين يعيش الإنسان على وضع الطيار الآلي، و“تذكّر الوجود”، حين يتوقف ويتأمل هشاشته وحرّيته، ويقرر أن يسلك طريقًا اختاره هو.
تصف روسو الصدمات الكبرى بأنها “زلازل شخصية” تزعزع أسس الواقع وتمنح الإنسان فرصة لإعادة البناء على أرض جديدة. هذه الزلازل قد تكون موت شخص عزيز، أو تجربة مرض، أو انتقال قاسٍ من بلد إلى آخر، أو حتى لحظة دهشة عظيمة تغيّر نظرة الإنسان للحياة. ومع كل هذا الاضطراب، تنشأ فرصة نادرة لما تسميه “الحرية الموقفية” — أي القدرة على إعادة تعريف الذات بعد الانكسار.
في دراساتها السابقة، تروي الباحثة قصصًا لأشخاص غيّرهم الألم جذريًا: امرأة دفعتها وفاة مفاجئة إلى ترك زواج غير مُرضٍ؛ ورجل غيّر مهنته بعد تجربة وعي داخلي هائلة؛ وشخص واجه تشخيصًا بمرض الإيدز جعله يعيد تقييم ذاته وحياته بالكامل. رغم اختلاف هذه التجارب، إلا أن القاسم المشترك بينها هو أن الهشاشة تكشف عن احتمالات لا نهائية لإعادة التكوين.
لكنّ العيش بأصالة ليس مهمة سهلة. فالكثيرون يختارون تجنّب الألم عن طريق الانغماس في الروتين أو إنكار الحرية الشخصية، وهي الحالة التي وصفها سارتر بـ“سوء النية”، أي أن يهرب الإنسان من مسؤوليته عن اختياراته بادعاء أن حياته محددة سلفًا. هذا النوع من “التكيّف الزائف” يجعل الحياة تبدو آمنة لكنها فارغة.
في المقابل، يتطلب “التكيّف الأصيل” الشجاعة لمواجهة القلق بدلاً من كتمه، والنظر إليه كإشارة لا كعدو. يدعو هذا المنظور الإنسان إلى خلق المعنى بدل انتظار أن يُمنح له، وإلى التعامل مع القلق كمعلومة عن رغباته واحتياجاته لا كمرض يستدعي العلاج.
توصي روسو بثلاث ركائز لعيش هذه الحياة:
الأولى، البقاء منفتحًا على الغموض. مواجهة عدم اليقين تتطلب القدرة على تحمل التوتر دون الهروب منه.
الثانية، بناء أطر للمعنى من خلال العلاقات والمجتمعات والإيمان، وهي مصادر تمنحنا القوة لرؤية القلق كعلامة على النمو لا كتهديد.
الثالثة، التمسك بالقيم الشخصية باعتبارها بوصلة تحدد الاتجاه وسط الفوضى. فحين يتداعى كل شيء، تصبح معرفة ما يهمنا حقًا هي الحبل الذي يعيدنا إلى توازننا الداخلي.
تحذّر الباحثة من أن غياب هذه الركائز يجعل الحرية عبئًا مشلولًا، لكن وجودها يحوّلها إلى طاقة خالصة. القلق حين يُفسَّر كمصدر تهديد يدفع الإنسان إلى القتال أو الهروب، لكنه حين يُعامَل كمعلومة، يتحوّل إلى وقود للحركة والاختيار.
في النهاية، تلخص روسو رؤيتها قائلة، إن الهزّات الوجودية ليست عدوًّا للحياة بل نداءً لها. فحين ينكسر الإطار الذي اعتدنا النظر من خلاله، ينفتح الأفق أمامنا لنصنع حياة أكثر وعيًا ومسؤولية وصدقًا.
https://www.psychologytoday.com/us/blog/social-instincts/202510/how-to-start-living-the-life-you-deserve

